ثورة الانفوميديا

تجتاح ثورة الوسائط المعلوماتية المتعددة عصرنا الحالي، وتكتسح اثارها جوانب حياتنا جميعها، بما يشبه كرة الثلج تنحدر من مرتفع طال سفحه، وكلما امتد بها الزمان قويت وزادادت سرعة وتضخمت، حتى ما عاد ينفع تجاهها سور حماية أونافذة مغلقة أوباب مؤصد, فاندفاعها يقتلع كل ما يواجهه دون عناء، وكذا رياح التغير، تغزو أجواء العالم محطمة الحواجز ومساند الصد، بسرعة تفوق الخيال والتصور، فقد غدت التكنولوجيا المحرك الرئيسي للاقتصاد العالمي، ولعالم التصالات والصناعات, مشكلة بذلك كنز الفرص الجديدة للذين أدركو كيف يستفيدون من المد الالكتروني الجارف, ليصلوا شاطئ العصر الالكتروني المسيطر.
والحديث هنا عن مفهوم طريق المعلومات الفائق السرعة، المعروف بوصفه اشارة لكل تشعب تكنولوجي؛ بدءاً من التلفاز التفاعلي, والحوسبة, وخدمات الهاتف المعززة, والتعلم عن بعد, والتشغيل عن بعد, وشبكات المعلومات, وانتهاء بما يعرف بالألياف العالية القدرة, التي شكلت بذاتها قفزة هائلة مستمرة في التغيير والتطور, مما يدل على ان عصر الانفوميديا سيشهد قريبا جيلا متاحا من الخدمات التفاعلية لقطاع الأعمال داخل المنزل, وسينتشر على أرض الواقع بما يعرف بالمنازل الذكية, تلك المنازل التي قد تعمل مجساتها الالكترونية على خفض درجة حرارة المنزل عند خلوه من ساكنيه مثلاً, ورفعها عند دخولهم بما يتناسب وحرارة الجو, أو أنها ستقوم باغلاق النوافذ عند تساقط المطر أو اشتداد الريح, أو غير ذلك مما يمكن برمجته الكترونيا, اضافة الى ان ثورة الانفوميديا ستوسع مظلتها لتشمل قطاعات الصناعة والمشاريع, حتى معركة فرض السيادة على السوق العالمية وعالم المال.

كل ذلك يشكل صدمة للمتمسكين بالسبل القديمة, فقد غدا حالهم كمن أجهدتهم السباحة ضد التيار, وصار لازماً عليه اختيار أحد أمرين؛ اما الاستمرار في بذل جهد لمقاومة التيلر حتى يفنى جهده ويختفي, واما الاستسلام للتيار القوي والتكيف معه. وهذا يعني ان ثورة الأنفوميديا ستجبرنا على اعادة النظر في قيمنا الأخلاقية, وكيفية تكيفنا معها على الصعيدين الشخصي والقومي, وطريقة اعداد أجيالنا القادمة وتربيتهم بما يضمن لهم تميز الهوية الشخصية والقومية, ويعطيهم في الوقت ذاته القدرة على مواكبة مجريات أحداث الثورة وعالم التكنولوجيا الرقمية.
ان هذه الثورة الالكترونية كفيلة بأن تؤثر بعمق في متلقيها, وستجبر البشر على اتخاذ مواقع لائقة لهم في مدرج التقبل التكنولوجي, بحسب ميولهم ومعتقداتهم واستعداداتهم, فمنهم المتحمسون الباحثون عن الرفه والمتعة التكنولوجية, ومنهم من يرون القيمة النفعية فيها فيتقبلونها مع مايتبناهم من الحيرة ازاءها, وبعضهم يكرهها وينفر منها ولا قدرة له على التعامل أو التكيف معها وهؤلاء الى زوال؛ فالصناعات القديمة التي تتناسب مع توجهاتهم تسير الى انقراض, فقد صار الحاسوب مع التلفاز وألعاب الفيديو والهاتف في أنسجام ألغى السمات الخاصة لكل منها, وصارت متداخلة الوظائف ويصعب تمييز أحدها عن الأخر, وغير ذلك الكثير مما سيؤدي الى مستقبل يكون فيه التواصل بلا حدود ولاجدران, ذلك أن الجدران ستتهاوى أمام وطأة تكنولوجيا الحوسبة المحمولة والأتصالات, وستكون حيلتنا المعاصرة, القديمة مستقبلا, مثيرة للضحك من أبائنا من الأجيال القادمة, عندما نقص عليهم وصفا لمعيشتنا.
ان التلفاز وسيط هائل يمكن لنا الاستفادة منه في تحسين خبرات التعلم لدى أبنائنا, عوضا عن بث الشكوانا ومعاناتنا الدائمة في أبعادهم عن شاشة التلفاز أو ألعاب الفيديو, وهذا لا يعني أن الكتب لم تعد مجدية, ولا يدعونا لهجرها؛ فلا شئ يعدل متعة القراءة في كتاب, ولكن التجربة والتفاعل مع الخبرة المرئية والمسموعة هي بكل مقاييس خبرة تخرج عن نطاق المقارنة, فهي تشكل الحلوى العقلية ذات المذاق الذي لايقاوم, ويمكن لأطفالنا استيعاب المفاهيم الصعبة عن طريق الوسائط المتعددة على نحو أسهل بكثير من القراة والتخيل, ومعروف أن خبرة التعلم التفاعلية القائمة على تعدد الحواس, تأسر انتباههم بدرجة كبيرة وتحملهم الى عالم تعليمي جديد, فالأقراص الليزرية المدمجة بالوسلئط المتعددة, تجعلهم يكتشفون افاقا واسعة من المعلومات التي توفرها المسموعات التفاعلية, وستكون مثل هذهه البرامج المتعددة الوسائط سوقا مستقبلية عملاقة, من شأنها أ، تلفت الانتباه الى ضرورة اعادة النظر في العملية التعليمية.
ان المنهجية التعليمية الجديدة التي أتت بها رياح التغيير, تفرض على الساسة والاداريين والمعلمين ضرورة العمل على ايجاد السبل الكفيلة بالحصول على نفعها, ودرء مخاطرها وسيئاتها ما أمكن لهم ذلك, والعمل على ترسيخ منظومة قيمة مجتمعية ودينية في ظل هذا التطور وغيره مما قد يطرأ على حياة الفرد, فهل يمكن لقدرات الانفوميديا المدهشة أن تحل محل المعلم المربي؟ أو الذكاء البشري؟ أو الروح الانسانية؟ وهل يمكن لها أن تغني عن امتلاك المهارات القرائية والكتابية والرياضية؟
لا يمكن لهذه الثورة التكنولوجيا مهما بلغت من تقدم سادر أن تحل محل هذه المهارات, بل ستسهلها نقلا وتدقيقا, وستكون الحاجة مع التكنولوجيا متزايدة الى أشخاص يتمتعون بأساس راسخ من المهارات الأساسية, ولا يمكن لها أن تكون بديلا ولو قريبا للمدرسين أو للعملية التعليمية, ولن تحل محل الذكاء والمثابرة أو الروح الانسانية, وهو ما يميز الجنس البشري, ولكن هذا التغير يجعلنا نقف أمام مفترق صعب, يلزمنا ويوجب علينا ايجاد القوة والكيفية اللازمتين للحفاظ على ثوابت الماضي, والانطلاق قدما نحو المستقبل, خاصة ونحن نرى عوامل الجذب التكنولوجيا تلفت انتباه الشباب بما فيها من جرعات التعلم والثقافة والتنوع.
ان قطار الانفوميديا قد غادر محطته بالفعل, ومن المؤكد ان الزمان والتقدم توأمان لاينفصمان, وعلينا أن نعمل بوعي ومسؤولية فرديا وحكوميا, لتجاوز ما يمكن لهذه الفترة الانتقالية أن تحملها من اضطرابات وتغيرات, وأن نسعى للتكيف مع هذه الثورة والافادة منها ومواكبتها, لما تحمله وتشكله من عالم الفرص وثروات وثقافات هائلة, ولنا أن نحذرها في الوقت ذاته, فهي تنذر بدفع من لا يجيد ركوب الموجة الى حافة الهاوية والخطر.