في هذه اللحظة المعتمة من تاريخ ومصير شعبنا، بل في هذه اللحظة الأقسى والأسوأ، يختار القدرُ أن يُغيّبَ محمود درويش. ما كان يحيّرني في شاعرٍ كبير بحجم درويش هو اقترابه من المؤسسة، وأحياناً، إن لم يكن غالباً، إندغامه فيها. فرجل بهذه القامة الفارهة، لم اقرأ أيضا:
بعد أن رسم ملامح أيامه الأخيرة والتقى المتنبي والمعري
الموت يختطف الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش
في رحيل محمود درويش
عباس ينعي محمود درويش ويعلن الحداد في الاراضي الفلسطينية
يكن بحاجة إلى أية مؤسسة، خصوصاً بعد أن صار هو نفسه مؤسسة. وبعد أن صار بمثابة "رأس مال رمزي لكل الشعب الفلسطيني" في الوطن والدياسبورا. لن نختلف على قيمة وقامة الرجل. فقط نشير إلى أنه، خسر من اقترابه من المؤسسة أكثر مما ربح. خدشته المؤسسة وهو يدري ولا يدري. لم يكن مع شعبه تماماً. ولطالما سكت في الأوقات الحرجة التي تتطلّب منه أن يقول كلمته. إنني حزين لوفاته على المستوى الشخصي، بل حزين أكثر مما يتصوّر البعض. وما كنت أظنّ، في زماننا الكافر هذا، أن أدخل بيتي، وقد كنت في مشوار، فأجد بناتي يبكين عليه وكأنه واحد من أفراد العائلة. ومع هذا، لن يمنعني حزني الشخصيُّ من قول ما يتوجب عليّ قوله حتى في هذه اللحظات. فدرويش كان شاعرنا الأول، وأحد أكبر الشعراء العرب في القرون الأخيرة، لذا ما كان بحاجة إلى المؤسسة السياسية الرسمية، حتى ولو ساهمت هذه كثيراً في صناعة اسمه_ خصوصاً في البدايات. لقد ظلَّ وفيّاً لها حتى النهاية، رغم مرور طوفانات كثيرة تحت الجسر، وذلك هو خطؤه. فهو يقترب منها في حين يبتعد شعبه عنها يوماً بعد يوم. وعليه، فقد كان شاعراً رسمياً بمعنى ما، شاعر يحرص الرسميون العرب، على حضور أمسياته الشعرية والجلوس في الصفوف الأولى. وما من مرة رأيت فيها هذا المشهد إلا واستأت. ماله هو ومال الرسميّات والرسميين!
شاعر بحجمه لم يكن بحاجة إلى أحد. وحتى على الصعيد المادي، بما أنّ الشاعر هو مواطن ويحتاج إلى مصاريف، كان ما أخذه من جوائز، في العشرين سنة الأخيرة، يكفيه لكي يعيش بشكل كريم جداً.
لقد كانت المؤسسة بحاجة إليه. وللأسف، اقترب منها بشروطها هي وليس بشروطه هو كشاعر. كانت تريد أن تأخذ من رصيده الرمزي، لتحافظ على مصداقيتها المتآكلة أمام الفلسطينيين والعرب. وهو لم يقصّر في مسعى" غير شعري" كهذا.
كان براغماتياً على نحو ما، رسمياً على نحو ما، وهذا ما كان يجعلنا نحتار فيه. كنا نريد منه أن يمارس دوره كمثقف، وبما يليق بمكانته: أن يقول كلمته في وقتها تماماً ودون حسابات. لكنه، شأنه في ذلك شأن معظم مثقفي منظمة التحرير، خذلنا. فهو كان، بأكثر من معنى، مثقفاً من مثقفي هذه المؤسسة. بل كان أحد أهمّ المقرّبين من رأسها السابق. وحين تحوّلت هذه المؤسسة إلى سلطة تتسلّط، كمثيلاتها العربيات، على الناس، لم يفه بكلمة أيضاً. كان يهرب، وكان يتوارى، وكان جيشٌ من حرّاسه الثقافيين، يتبارون في الدفاع عنه، كلما انتقده أحد، وكأنه العجل المقدّس!
حين زار غزة، في بدايات نشوء السلطة، للمرة الأولى والأخيرة، قام بجولة استطلاعية على مدن ومخيّمات القطاع. مرّ على مدينة خان يونس، حيث أسكن، فطفق يتأفّف من معاناة شعبه، ومن [ يأس وبؤس] هذه المدينة المناضلة التي لطالما نكّل بها الاحتلال الإسرائيلي. لكأنما كان يراها بعين السائح لا بعين الشاعر الوطني. هذا ما قاله لي أحد أكبر صانعي تماثيله في الثقافة الفلسطينية(أحمد دحبور). كان درويش يتأفف كما يليق بولد مدلّل جاء من كندا، ولهذا كبُرت المساحة النفسية بين البعض منّا وبينه. كبرت إلى درجة أننا لم نفكّر فيه حين تغوّلت علينا هذه السلطة، وحين أمر أحد وزرائها بحبسنا كمجرمين في المعتقل!
ليرحمك الله يا شاعر فلسطين. وليغفر لك ضعفك ومجاملتك وتماهيك مع مؤسسة أوصلنا فسادُ رموزها إلى ما نعانيه الآن وإلى غدٍ غير منظور، لا أحد يعرف متى ينتهي. فلولا فساد هذه المؤسسة، ما فازت حماس. وما صار حالنا على ما هو عليه الآن: لا يسرّ صديقاً ولا حتى عدواً. فها نحن أولاء في لحظة انعدام الوزن والعقل: منذورين للمجهول: نخاف أن نكتب: نخاف أن ننشر. بل نخاف أن نحيا. وبعض ذلك بسبب صمت المثقفين، وبسبب حسابات خارج نبل وبراءة وشرف الشعر والثقافة، لا أقلّ.
ليرحمك الله.
وليأخذ الشعراء، عبرةً من هذا الدرس.
كنت شاعراً كبيراً، أي نعم.
أما مثقفاً ذا موقفٍ، كصديقك إدوارد سعيد، فلا.
لا لم تكن كذلك. ولهذا نعتب عليك، حتى وأنت في غمام الأبدية البيضاء. حتى وعيني تدمع الآن، بينما عقلي يتعارك مع قلبي أثناء كتابة هذه الكلمات.
لقد قلتَ ذات يوم، حين خرجت من عملية القلب المفتوح في باريس، إنك لا تخشى الموت المادي، وإنما [الموت الذي أظل أخشاه هو "موت القدرة على الكتابة"]. وأنا أضيف: وموت القدرة على اتخاذ موقف.
ليرحمك الله وليرحم شعبك الوالغ في التيه يا محمود.
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه