بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مثلما أنه لا يمكننا التحكم في ضربات قلوبنا لا يمكننا أيضاً اتخاذ قرار موضوعي بالكره! عضلة القلب عضلة لاإرادية، وكذلك هو شعور الكراهية، لا إرادي ومرهونٌ بشروط سيكولوجية حرة.
هذا كله إذا افترضنا حدود قدرة الإنسان على التعامل مع جسده ومشاعره، إما إذا أقحمنا ما هو خارجٌ عن قدرته الفردية، كالمبضع والحقنة، فبإمكاننا تغيير عمل القلب وكذلك خلق شعور الكراهية. وكل ما تتطلبه العملية الأخيرة هو زرع أسباب الكره في اليقين الداخلي للفرد. مبضع العنصرية يمكن أن يفعل أشياء كهذه، وحقنة الأيديولوجيا يمكنها أن تغير خريطة المشاعر تماماً. والحقيقة، أن جلّ عمل المحرضين على الكراهية، والمصرين على كونها قراراً سماوياً أبدياً، إنما يمارسون عملهم بالمبضع والحقنة، وإلا فإنهم عاجزون تماماً عن توليد الكراهية بشكل طبيعي في قلب الفرد تجاه فئات معينة، لأن هذا ما لم يجبل عليه الإنسان فطرةً.
نحن إذن إذ نحوّل الكراهية إلى واجب ديني، لا تكتمل تقوانا إلا به، ولا يتمّ إيماننا إلا معه، فإنما نحاول بذلك إحداث خلل (مقصود) في منظومة المشاعر الإنسانية. خلل يحدث بفعل (فاعل) يظنّ أنه يرضي الله أكثر كلما جعل فئة من الناس تكره فئة أخرى من الناس الذين يشاركونهم الكوكب. وهو في مهمته المقدسة لترويج الكراهية على أنها واجب ديني، يصطدم كثيراً بنزعة الإنسان الفطرية نحو الإخاء الاجتماعي، ولكنه يستفيد أيضاً من نزعة الإنسان الجهولة إلى الأنانية والاستئثار بالحقيقة والانتقام. في كل الحالات، فإن عمله يقوم على إبقاء جذوة الكراهية مشتعلة، كنار لا ينبغي لها أن تنطفئ، فكلما خفتت شعلتها نفخ فيها من التأويلات المتشددة للنص المقدس، والتفسيرات المتحيزة في التاريخ، والافتراضات العشوائية لنيّات الآخر، والإلهاب المباشر لجراحات الماضي، والتنويع على وتر الانتقام المرتقب.
ينزع البشر إلى الكراهية فور تعرضهم للظلم أو الهزيمة لأن الكراهية هي أسرع مهدئ لآلامهما معاً، كما أنها أسهل (جبيرة) ممكنة للعزة المكسورة. كره الآخر والتصريح به يحمل في ثناياه شعوراً مبطناً بالاستغناء والإباء، بينما هي ليست استغناءً ولا إباءً. تماماً مثلما أن المخدّر يمنح شعوراً بالانتعاش والسعادة، وهي ليست انتعاشاً ولا سعادة. من الطبيعي أن يكره الإنسان من ظلمه وهزمه، والسمو فوق هذين الشعورين البدائيين يتطلب فلسفة راقية جداً كفلسفة غاندي مثلاً، وهو ما لا نفترضه في عموم الأمة، ولكن المشكلة لا تكمن في الولادة الطبيعية لشعور الكراهية، ولكن في زرع نطفتها عمداً في الرحم الإنساني من أجل الظفر بانتصارات أيديولوجية، أو معالجة جراح تاريخية، أو خلق حالة وهمية من الإباء الجميل.
لقد كره اليابانيون الأمريكيين بعد أن دمروا مدنهم بالقنابل الذرية، ولكنهم تجاوزوا كراهيتهم بعد أن فطنوا أن الكراهية ليست شعوراً أبدياً ولا نافعاً، وتحولوا بعد ذلك إلى أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة. ولقد كرهت أوروبا الألمان بعد أن خربوا مدنهم وشردوا أجيالاً منهم، ثم عادت ألمانيا إلى منظومة الوحدة الأوروبية كقائدة يتبعها الركب. ولقد كره المسلمون اليهود على خلفية المواقف اليثربية، ثم تحالفوا معهم حلفاً استراتيجياً في الدولتين الأندلسية والعثمانية. حدثت كل هذه المواقف في ثنايا التاريخ، بين البوذي والمسيحي، واليهودي والمسلم. ولم يحدث أن سمعنا بالكره الخالد، ولا بالبغض المفروض فرضاً من السماء، إلا في أذهان الملتاثين بنزعة المجد السليب، والمتورطين في آلام متراكمة بسبب قراءتهم الخاطئة للتاريخ والحضارة، ويحتاجون إلى مخدر قوي، كالكراهية، يقنعهم أنهم إذا ما انهزموا في الساحة الحضارية الكبيرة، فبإمكانهم الانتصار في ميادينهم المعنوية الصغيرة.
الكراهية إذن شعورٌ إنساني معتبر، لا يمكن حذفه من قائمة المشاعر الإنسانية، وقد يحتاجه الإنسان مضطراً مثلما أنه قد يحتاج إلى المخدّر الموضعي مضطراً. ولكنها عندما تتحول إلى أداة ثقافية وأيديولوجية تخرج من كونها مسكناً مؤقتاً للألم الناتج عن صراعات البشر المتكررة التي تنشب وتنتهي كل يوم بشكل طبيعي، وتتحول إلى وباء إنساني سريع الانتشار، لاسيما في أجواء أيديولوجية ناقلة للفيروس مثل أجواء العالم الإسلامي.
المنتصر لا يكره. فالكراهية ليست من مشاعر الانتصار، ولكنها بالتأكيد من مشاعر الهزيمة. ولذلك فإن المسلم المتوتر أيديولوجيا هو أكثر عرضة للوقوع في شراك مروجي الكراهية من المسلم الذي يعيش بعيداً عن بؤر التوتر والصراع. (والبعد هنا ليس جغرافياً فقط، بل حضاري أيضاً). رغم أن كليهما مسلمٌ ينهل من المصادر ذاتها. ولكن مناعة الثاني الثقافية تقيه من فيروس الكراهية، وتمنحه رؤية إنسانية أشمل، بينما يقع الأول فريسة سهلة لأول خطبة متشددة أو كتاب ملوث.
اختيار الإنسان لدينه ومعتقده هو جهد عقلي يحاول من خلاله كل إنسان على وجه الأرض التوصل إلى معادلة إيمانية تحقق له طمأنينة الروح والنفس، إنها إذن علاقة خاصة جداً في جوانح الإنسان، وبين عقله وروحه فقط، وحيثما استقرّ الأول اطمأن الثاني، خصوصية هذه العلاقة المغلقة لا تستدعي المجاملة ولا التصنع ما دام هدفها الصادق هو إراحة النفس القلقة الباحثة عن متكأ إيماني تسكن إليه. فلماذا يمكن أن يكره الإنسان الآخر وكلاهما ينشد نفس الهدف، ومرّ بذات التجربة، وعلم يقيناً أنها شديدة الخصوصية، ولا يمكن التدخل في منطقة ضيقة جداً كتلك التي تقع بين عقل الإنسان وروحه؟ كلاهما يعرف أنهما استقرا إلى ما ارتاحت إليه روحاهما دون تعمد المغالطة والاختلاف والكفر. فلماذا وجبت كراهية الآخر لمجرد أن بحثه عن الإيمان أوصله إلى نتائج مختلفة؟
الأمر لا يبدو منطقياً هنا، ولا الكراهية مبررة. ولذلك، فإن صعوبة تسويق الكراهية منطقياً تجعل من الضروري إقحام النص المقدس، بتأويلات خاطئة، لإضعاف دور المنطق، وتحويل الأمر برمته من نتيجة عقلية بشرية إلى إرادة إلهية قاطعة ليس للعقل دور فيها. هذا الالتفاف المشبوه حول المنطق مورس آلاف المرات عبر التاريخ، لأن المنطق عدو القطيع الأول، ولذلك لا يحبه الرعاة الذين ينشدون السيطرة على المجتمعات عن طريق خلق أعداء أبديين، وتسليط كراهية الأمة عليهم. لا جديد في هذا التواصي التاريخي في لعب ذات الدور منذ التقى أول كاهن بأول مغفل، على حد تعبير فولتير.